كتب- أحمد التلاوي:
بعد سبع سنوات من تنصيبه في مكانه هذا؛ اكتشفت الولايات المتحدة أن الرئيس الأفغاني حميد قرضاي شخص فاسد ولا يصلح للحكم.. هذا الحكم من جانب واشنطن على قرضاي لا غبار عليه، لولا أنه جاء من طرف كان هو السبب في تولي الطرف الآخر منصبَه هذا، وكان هو من أوجد قواعد اللعبة السياسية والأمنية الجديدة في أفغانستان، والتي سمحت لقرضاي- بطبيعة الحال ودون تجنٍّ على الولايات المتحدة- في الاستمرار في "فساده" هذا.
وكان مؤتمر ميونخ العالمي للسياسات الأمنية في دورته الخامسة والأربعين والمنعقد مؤخرًا في جنوب ألمانيا هو المجال الأبرز الذي شهد تفجر الانتقادات الغربية والأمريكية لقرضاي وللوضع السياسي والأمني العام في أفغانستان إلى العلن؛ بعد سنواتٍ طويلةٍ من "الاحتواء الإعلامي"- إنْ صحَّ التعبير- للأزمة القائمة في العلاقات ما بين قوةٍ عظمى وأحد أتباعها عبر العالم.وكان مرجع هذا الاحتواء عدم رغبة إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في الكشف عن مَواطن القصور والعوار في سياساتها عبر العالم، والتي أدت إلى الحفاظ على شخصيةٍ "فاسدةٍ" و"لا تصلح للحكم" مثل قرضاي في منصبه لمدة سبع سنواتٍ.
الأقسى من ذلك بالنسبة لكابول أنَّ الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما باتت تعتبر قرضاي- الذي كان مقربًا بشدة من بوش الابن- جزءًا من المشكلة في أفغانستان، وليس أساسًا للحل، وبالتالي ومع وضع أوباما لأفغانستان والأوضاع السياسية والأمنية في آسيا الوسطى على أولى أولويات قائمة العمل القومي الأمريكي؛ فإنَّه بات من المُرجَّح أنْ يشهد العالم في الوقت الراهن آخر أيام قرضاي.
ولا يمكن الركون إلى ما أشارت إليه الأنباء الواردة مطلع هذا الأسبوع من كابول؛ بشأن موافقة الولايات المتحدة على مشاركة الحكومة الأفغانية في العمل السياسي والعسكري- الأمني على الأرض في كل من أفغانستان وباكستان، بناءً على طلبٍ من قرضاي، كمعيارٍ للقول برضا واشنطن "الجديدة" عن قرضاي؛ فهذه الخطوة تأتي ضمن الإجراءات الأمريكية الراهنة لإعادة هيكلة سياسات أمنها القومي- حركتها الخارجية- على المدى الطويل، من دون النظر لطبيعة الشخصيات الموجودة، مع الوضع في الاعتبار أنَّ التغيير في كابول هو الاحتمال الأقرب بعد انتخابات أغسطس القادم في أفغانستان.
مشكلات واتهاماتوللولايات المتحدة مجموعة من التحفظات والمشكلات مع قرضاي، سواءٌ على المستوى الشخصي الخاص به أو على المستوى الموضوعي المتعلق بالأوضاع في أفغانستان والسياسات العامة في داخل البلاد وخارجها.
فهناك أولاً اتهاماتٌ تتعلق بالفساد تمس قرضاي وعائلته، ومجموعة من الأفراد من الدائرة الضيقة المحيطة به، وهو ما جعل أفغانستان تحتل المرتبة الـ176 من بين 180 دولة على مستوى العالم في مؤشر قياس الفساد التي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
ووصل الفساد في أفغانستان إلى درجة المتاجرة في تأشيرات الحج، وكان موسم العام الماضي فضيحةً أدت إلى إجبار قرضاي على إقالة وزير النقل حميد الله قادري، وإحالته للتحقيق بتهمة الفساد وإساءة استغلال السلطات بضغوطٍ أمريكية وغربية، وصلت إلى حدِّ التهديد بقطع المساعدات عن أفغانستان، والتي تشكِّل أكثر من 90% من حجم موازنة الدولة.
يضاف إلى ذلك عدم تحقق أي إنجازٍ على المستوى الأمني على الأرض منذ استقرار الترتيبات السياسية التي أوجدتها الولايات المتحدة بعد الغزو الذي وقع في أكتوبر 2001م، بعد أقل من شهرٍ على أحداث سبتمبر الشهيرة.
فحركة طالبان بدأت في استعادة الأرض التي خسرتها على مستويَيْن:
الأول: سياسي.. حيث أصبحت طالبان مادةً رئيسيةً في حديث المصالحة السياسية التي يرغب قرضاي والولايات المتحدة في إيجادها في أفغانستان لتهدئة الوضع الأمني.
والثاني: فعلي.. حيث تسيطر الحركة وعلنًا على مساحةٍ تكاد تقترب من ثلاثة أرباع مساحة أفغانستان.
وفي ديسمبر الماضي أصدر المجلس الدولي للأمن والتنمية تقريرًا قال فيه إن لحركة طالبان الآن "وجودًا دائمًا" فيما يقرب من 72% من مساحة أفغانستان، وقال إنَّها باتت تشكِّل تهديدًا للعاصمة كابول ذاتها، وقال تقرير المركز: إنَّ هذا يعني فشل كل الجهود العسكرية وجهود التنمية التي يقودها الغرب وحكوماته التي عينها في أفغانستان عبر ما يقرب من عقدٍ من السنوات.
وكان المعيار الذي اعتمد عليه التقرير في تعريفه لجزئية "الوجود الدائم" هذه هو حدوث هجوم أو أكثر أسبوعيًّا على مدار العام في مكانٍ بعينه، وقال إنَّ وجود طالبان في أفغانستان ارتفع في العام 2008م عن العام السابق عليه بمقدار 50%؛ حيث كانت أنشطة طالبان لا تتجاوز في مساحتها حاجز الـ50% من مساحة البلاد.
كما رجَّح التقرير تنامي المساحات التي تنشط فيها حركة طالبان خلال فترة الربيع والصيف المقبلَيْن؛ حيث تبدأ عادةً الحركة في تنظيم صفوفها والعمل على توجيه ضربات قاصمة للقوات الأفغانية وقوات حلف شمال الأطلنطي والقوات الأمريكية الموجودة هناك؛ انطلاقًا من معاقلها الرئيسية في الجنوب والوسط ومناطق شرق البلاد المتاخمة للحدود الباكستانية.
وبطبيعة الحال فإنَّه في المقابل لا يوجد إنجازٌ عسكريٌُّ واضحٌ لكلِّ تلك القوات الموجودة هناك، والبديل أمام الأمريكيين هو قصف مناطق المدنيين وقتل الكثير من الأبرياء، وبحسب أرقام الأمم المتحدة فإنَّ ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص قُتِلوا في أفغانستان في العام 2008م.
ومن بين مكامن الغضب الأمريكي على قرضاي عدم تبدُّل الوضع العام في البلاد عن فترة طالبان، بل على العكس ازداد الوضع سواءً، ووفق المعايير الغربية في هذا الشأن فإن أفغانستان أصبحت:- أقل استقرارًا من الناحية السياسية، مع عدم تطبيق كامل قواعد اللعبة الديمقراطية؛ حيث يستأثر قرضاي ومجموعته بالسلطة في البلاد.
- أكثر قذارةً؛ حيث ازدادت تجارة المخدرات التي كانت طالبان قد قضت عليها تقريبًا، فتقارير الأمم المتحدة تحدثت عن أنَّ طالبان كانت قد قضت على أكثر من 80% من زراعات المخدرات في أفغانستان، بينما الآن عاد هذا البلد إلى الواجهة كأكبر منتجٍ للأفيون والهيروين على مستوى العالم، إلى حدٍّ دعا وزيرة الخارجية الأمريكية الجديدة هيلاري كلينتون إلى أنْ تصف أفغانستان بأنها "بلد مخدرات"، مع تورط قرضاي في هذا الأمر؛ بحسب مصادر أفغانية.
- فشل مؤسسات الدولة الأفغانية الوليدة في تحقيق الحد الأدنى من مطالب الحياة اليومية للمواطن الأفغاني، سواءٌ في حفظ الأمن أو في توفير فرص عمل وخدمات محلية وعامة قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن، وهو ما جعل تصنيف أفغانستان كدولةٍ واحدة من أكثر عشر دول في العالم فشلاً.
مشكلات أمريكية
"قرضاي مشكلة صنعها الأمريكيون"، هذا مبدأ لا بد للأمريكيين أنفسهم أن يتفهموه، بينما هم يخططون لإعادة رسم علاقاتهم وأولوياتهم في آسيا الوسطى، فالخطط الأمريكية الجديدة هناك ترتكز على ثلاثة أضلاعٍ أساسيةٍ:
1- السياسة.
2- الأمن.
3- الوضع العسكري على الأرض.
وكلها أمورُ متشابكة ولا يجوز- بل لا ينفع من الأساس- فكّ الربط بينها، ولكنَّ المشكلة الرئيسية هناك هي أنَّ ارتباط التغييرات الأمريكية في الإستراتيجية العامة المتبعة في أفغانستان سيكون له جانب سياسي، ولا يمكن فصلُه عن بقية الإجراءات الأخرى، وهو ما خلق مشكلةً أخرى فرعيةً تمس قرضاي؛ فرعية لكنها مهمة في ذات الوقت.
فالجانب السياسي للخطط الأمريكية مزدوج الاتجاهات؛ فهو أولاً يرفض الاعتراف بطالبان أو إجراء مصالحةٍ معها في الوقت الحالي على الأقل، ويرتبط هذا الاتجاه بالجانب العسكري للسياسات الأمريكية الجديدة في أفغانستان من حيث مضاعفة عدد القوات، بينما يرغب قرضاي في مصالحة طالبان وخفض عدد القوات الأمريكية والأطلنطية في بلاده.
الاتجاه الثاني هنا في الناحية السياسية هو رغبة واشنطن في توسيع نطاق علاقاتها وتحالفاتها مع زعماء العشائر والقبائل المحلية في المناطق التي تسيطر عليها طالبان، والاستعانة بهم لمواجهة نفوذ طالبان المتزايد، وهو ما يقلق قرضاي، ويعتبره تهميشًا له.
ومع ربط الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما بين الملفين الأفغاني والباكستاني- خلال خطاب تكليفه لمبعوثه الجديد للمنطقة، ريتشارد هولبروك، وربط واشنطن بين قضية الإرهاب في آسيا الوسطى والجنوبية والأوضاع في أفغانستان- فإنَّ حكومة كابول رأت أنَّها لن تكون لها وضعيةٌ تذكر في أية ترتيبات بين عمالقة كبار كالهند وباكستان والولايات المتحدة، وسوف تكون تابعةً لواشنطن على أقصى تقدير.
الجانب العسكري ذاته له تبعات سياسية في تفكير كابول، فمعنى أنَّ الولايات المتحدة تخطط لإرسال 30 ألف جندي إضافي لكي ينضموا إلى 32 ألفًا آخرين موجودين هناك؛ فإنَّ ذلك من شأنه إطالة الوجود الأجنبي في البلاد، وخوض معارك طويلة الأمد؛ بما يعني المزيد من عدم الاستقرار بالنسبة للعاصمة كابول، وبالتالي لحكم قرضاي والمجموعات المرتبطة به.
كل هذا يؤدي إلى زعزعة أوضاعٍ أمنيةٍ هشَّةٍ من الأصل، هشَّةٍ وخطرةٍ، ولم تستطع إسلام آباد ذاتها بجيشها النووي التصدي لها، لدرجةٍ أجبرت الجيش الباكستاني على إغلاق ممر خيبر، أهم منفذ لتموين قوات الناتو والقوات الأمريكية في أفغانستان، في وجه الشاحنات التي تحمل الإمدادات اللوجستية والعتاد لهذه القوات، بعد تزايد حالات الهجوم عليها في خريف وشتاء العام الماضي 2008م؛ مما دفع الأمريكيين إلى اللجوء إلى روسيا وبلدان آسيا الوسطى الأخرى لتوفير مساراتٍ بديلةٍ لشاحنات الدعم.
وعلى سوء الوضع فكَّر فريق أوباما للأمن القومي في اللجوء إلى إيران لإدخال الدعم مباشرة بدلاً من خط السير الطويل هذا من روسيا وقيرغيزستان؛ بما يزيد من احتمالات المخاطر وتعرُّضها للهجمات، ولكن النصيحة التي وجَّهها فريق أوباما له هي الانتظار بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو المقبل، لعلها تؤدي إلى تبدل اتجاهات الريح في طالبان.
وفي النهاية بقيت ملاحظتان:الأولى في غاية الخطورة على مستقبل أفغانستان، وهي أنَّ العلاقات ما بين واشنطن وكابول الآن باتت علاقات شكٍّ متبادل وكراهيةٍ عميقةٍ، ولو استمر قرضاي بعد انتخابات أغسطس المقبل، قد يلجأ للانتقام من واشنطن "سرًّا" بدعم مسلَّحي طالبان والحركات الأخرى المرتبطة بها لإنهاك قوى الأمريكيين، فيظهر بعدها بحلوله الجاهزة، وهي لعبةٍ خطرةٍ قد تُدخل أفغانستان في دوامةٍ عنفٍ مجنونةٍ لسنواتٍ طويلةٍ مقبلةٍ، وقد تنقلب المائدة على رأس قرضاي نفسه من واشنطن أو من جانب طالبان.
أما الملاحظة الثانية فهي ماذا تعتزم الولايات المتحدة أنْ تضيف بإرسال 30 ألف جندي إضافي، فمن خلال التجربة التاريخية القريبة في أفغانستان، فإنَّه إبان الاحتلال السوفيتي السابق لهذا البلد الصَّعب، وعلى الرغم من نشر ما يصل إلى 120 ألف جندي سوفيتي، يدعمهم 300 ألف جندي من القوات الحكومية الأفغانية، إلا أن السوفيت فشلوا في قمع تمرد مقاتلي المجاهدين الأفغان الذين كانت تدعمهم الولايات المتحدة بالمال والسلاح وكانت لهم قواعد داخل باكستان المجاورة، فماذا سوف يفعل 60 ألف جندي أمريكي "فقط" في مواجهة هذا الرعب؟! على واشنطن وقرضاي "فقط"- أيضًا- البحث عن الجواب!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق