- 900 مليون جنية تكلفة التنفيذ.. و"ثروت" أهم الأهداف
- السياسيون: تمهيد سافر للانتخابات المقبلة برلمانيًّا ورئاسيًّا
- الحقوقيون: حالة غريبة تعبِّر عن هاجس حكومي غير مبرَّر
تحقيق- حسن محمود:
شارع "عبد الخالق ثروت" من أبرز معالم مصر ليست السياحية بلا شك ولكن السياسية؛ حيث يقبع في هذا الشارع وفي مربع واحد معاقل الحريات والرأي والعدل في مصر؛ ففيه نادي قضاة مصر ونقابة الصحفيين التي تجاورها نقابة المحامين.
وقد مثَّل هذا المثلث قلقًا بالغًا للنظام المصري خلال الأعوام العشرة الماضية، سواءٌ في ملف الاستقلال القضائي الذي رفعه نادي قضاة مصر على يد المستشار زكريا عبد العزيز، أو نقابة الصحفيين التي تحوَّلت إلى "هايد بارك" المجتمع المصري، وكلاهما تعرَّض لمقصلة الحكومة التي استخدمت كافة الوسائل في خطة محكمة التنفيذ لترويض هذين الصرحَين بشكل رسمي.
ولم يتبقَّ لها في هذا الشارع العتيق- الذي يحمل اسم أحد رموز مصر القانونيين- سوى هذا المبنى الذي يحتل ناصيتي شارع رمسيس وعبد الخالق ثروت، وهو نقابة المحامين، والذي تعمل الحكومة بكل جهدها للسيطرة عليها، لتكون بذلك قضت من وجهة نظرها على أحد أبرز معاقل القلق بالنسبة لها.ويرى مراقبون أن الحكومة سوف تتنقَّل بين شوارع المحروسة البارزة التي تحظى باهتمام سياسي، مثل شوارع رمسيس والقصر العيني والتحرير والجامعة.وفي معظم محافظات مصر الحال "زي بعضه"؛ فالشوارع التي تتخذها الحركات السياسية والاحتجاجية مقرًّا لفعالياتها؛ تم تأميمها بالكامل وحاصرتها قوات الأمن.
وفي أزمة غزة الأخيرة شهدت شوارع مصر انتفاضةً شعبيةً كسرت التأميم إلى حد كبير، إلا أن الوضع عاد من جديد، ووصل الحد بعدها إلى أن رفع ناشطون دعاوى قضائية للسماح لقوافل إغاثة غزة للسير في شوارع مصر باتجاه معبر رفح، وكان الطريف فيها أن المحامين قدَّموا في دفوعهم القانونية أنه لا يوجد قانون يمنع تجوُّل مصري في شوارع بلده.
وقد كشفت قيادة أمنية في مظاهرة المحامين الأخيرة أمام مجلس الشعب أن الحركة في الشارع سوف تكون ممنوعةً خلال الأيام المقبلة على الحركات الاحتجاجية والسياسية.
مجمل الأحداث تؤكد أن ثمة قرارًا سياديًّا بتأميم شوارع مصر المحروسة وإعلانها شوارعَ حكوميةً تخصُّ الحزب الحاكم، ونزع حق الشعب في الوجود فيها؛ خاصةً القوى الوطنية المناهضة لسياسيات الحزب الخاطئة والمطالِبة بحق الشعب المصري وضمان حقوقه وحرياته.
تكلفة هذا التأميم بالتأكيد هي نفسها تكلفة النفقات التي تنفقها على قوات الأمن المركزي، والتي قدَّرها باحثون اقتصاديون بأنها تبلغ سنويًّا من 800: 900 مليون جنيه، مشيرين إلى أن نصيب المتظاهرين يتراوح بين 20: 22 ألف جنيه سنويًّا.
(شباب وجامعات) تطرح المشهد على عدد من السياسيين والحقوقيين، وتتساءل: لمصلحة من هذا التأميم؟ وما الملامح المتوقَّعة لاستمرار هذا الواقع، خاصةً بعد حادثة في خطورة (حادثة الحسين) التي كشفت عورات الأجهزة الأمنية في مصر؟ وكيف تغيِّر القوى الوطنية من هذا الواقع؟!
في البداية يقول د. مجدي قرقر الأمين المساعد لحزب العمل إن كل الشواهد تؤكد أن مصر باتت "عزبةً" يمتلكها الحزب الوطني ولجنة السياسيات، ويلعب الأمن فيها دور تحديد مصير شعبها؛ بسبب اليد الطولى التي امتدت إلى كافة أشكال الحياة في مصر.
ويوضح أن حظر القوى السياسة الفاعلة ومنعها من الارتباط بشوارع مصر هو امتدادٌ طبيعيٌّ لتقنين الحكومة النقابات المهنية وتأميمها نادي القضاة مؤخرًا وتجمديها كافة الأحزاب السياسة الفاعلة، ومنعها أي أحزاب جديدة مؤثرة من الوجود في الشارع السياسي.
ويحذِّر د. قرقر الأمن من استمرار قراءته الخاطئة للأحداث، واستمتاعه فقط بالمنع الأمني للحركات السياسية، موضحًا أن العمل السياسي في الضوء أفضل مليون مرة من العمل السري المسلَّح الذي يرى في نفسه نجاحًا بعد إصرار الحكومة على إحباط العمل العام وإقصاء المهتمين بالشأن العام.وتوقع ألا يدوم هذا التجبر الأمني طويلاً وألا يدوم غلق شارع "عبد الخالق ثروت" وحبس المتظاهرين بين أرجائه فقط، مشيرًا إلى أن متواليات الظلم والطغيان تدفع إلى الانفجار الشعبي؛ الذي قد لا يستطيع الأمن التعامل معه.
احتلال سافر
جمال تاج الدين عضو مجلس نقابة المحامين السابق يرى أن التأميم لا يقتصر على الشوارع فقط، مشيرًا إلى أنه وصل إلى حدِّ قاعات الأفراح والمناسبات التي وصل الأمر فيها إلى ظاهرةٍ؛ مفادها أن مواطنًا ما ممنوعٌ من استخدام قاعة للاحتفال بمناسبته السعيدة لظروف أمنية!.
ويُرجع تاج الدين هذا الوضع إلى أن ملف مصر بات بالكلية في يد الأمن؛ حتى باتت الشوارع والحواري والنوادي وكل ما يتصل بحياة المواطن "ملفًّا أمنيًّا"، مؤكدًا أن شوارع مصر تخطَّت مرحلة التأميم إلى مرحلة الاحتلال.
ويوضح أن النظام المصري يعيش ورطةً كبيرةً يحاول الخروج منها وترتيب الأوضاع القادمة له؛ مما دفعه إلى الاستجابة لبعض طلبات الحكومة الأمريكية من أجل مساعدته في التوريث.
ويشير إلى أن كافة التحركات الآن تتجه إلى نقابة المحامين بعد "لجم" نقابة الصحفيين ونادي القضاة، ولكن هذه التحركات ستفشل، وستواجه النقابة كل الأحداث المقبلة بقوة القانون التي تحميه، وستقف في وجه أي سيناريو غير شرعي يخطف مصر من أبنائها ومن الشرعية الدستورية.
ويشدد على أن أيَّ جريمة يرتكبها النظام المصري ضد الحريات لن تسقط بالتقادم، وسيأتي اليوم الذي يقف الجميع فيه أمام المحاسبة والمحاكمة.
كسر العظم
ويوضح خليل العناني الباحث بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام أن تأميم الشوارع في مصر له بعدان؛ أحدهما أمني، والآخر سياسي ويرتبط ارتباطًا وثيقًا- بعد السيطرة الأمنية- بالاحتجاجات السياسية والاجتماعية ومحاولة ترتيب الانتخابات القادمة بلا صداع للحكومة، وإنهاء محاولات العصيان المدني المتواصلة في الشارع المصري.
ويرى أن الحادث هو معركة "كسر العظم" بين الدولة والمجتمع، وكلا الطرفين يحاول الحصول على ما يريد من الآخر عن طريق معارك "النفَس الطويل"؛ فإما أن تنجح الدولة أو ينجح المجتمع بعد فترة.ويشير إلى أن الخطورة هي انسحاب الأحزاب من المعركة مع الحزب الوطني كعادة أي حياة سياسية، وحضور المجتمع ككل بكل حركاته الاجتماعية التي تطالب بمطالب لا يختلف عليها أحد أمام الدولة، وإن الحل هو تأمين لقمة العيش، وإزالة الاحتقان والبحث عن جذور المشكلة وليس نتائجها.
هاجس غير مبرر
محمد زارع الناشط الحقوقي ورئيس المنظمة العربية للإصلاح الجنائي السابق أكد أن هناك حالةً من الفزع الحكومي المتواصل منذ حادث المنصة في 1981م، وفرض حالة الطوارئ من يومها حتى الآن.
ويشير إلى أن هذا سبَّب هاجسًا نفسيًّا غيرَ مبرَّر وخوفًا دائمًا من المجهول، رغم عدم وجود مشكلة أمنية كبرى في مصر كدول أخرى، حتى وصل الأمر إلى ظهور حالة مضحكة في العقلية الأمنية تفرض 2000 ضابط وعسكري أمن مركزي أمام 100 متظاهر في شارع "عبد الخالق ثروت".
ويؤكد أن هناك نيةً للتأميم من غير أي شيء تتمسك بها الحكومة المصرية طوال أكثر من ربع قرن، تتضح مع إصرار الدولة على جعل حالة الطوارئ حالةً دائمةً، من كثرة تصديق هواجس أمنية غير حقيقة وغير مبرَّرة.